فصل: قال ابن جزي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال النسفي:

{الحاقة} الساعة الواجبة الوقوع الثابتة المجيء التي هي آتية لا ريب فيها، من حق يحق بالكسر أي وجب {ما الحاقة} مبتدأ وخبر وهما خبر {الحاقة} والأصل الحاقة ما هي أي أيّ شيء هي تفخيما لشأنها وتعظيما لهولها أي حقها أن يستفهم عنها لعظمها، فوضع الظاهر موضع الضمير لزيادة التهويل {وما أدْراك} وأي شيء أعلمك {ما الحاقة} يعني أنك لا علم لك بكنهها ومدى عظمها، لأنه من العظم والشدة بحيث لا تبلغه دراية المخلوقين.
و(ما) رفع بالابتداء و{أدْراك} الخبر، والجملة بعده في موضع نصب لأنها مفعول ثانٍ ل (أدرى) {كذّبتْ ثمُودُ وعادٌ بالقارعة} أي بالحاقة فوضعت القارعة موضعها لأنها من أسماء القيامة، وسميت بها لأنها تقرع الناس بالأفزاع والأهوال.
ولما ذكرها وفخمها أتبع ذكر ذلك ذكر من كذب بها وما حل بهم بسبب التكذيب تذكيرا لأهل مكة وتخويفا لهم من عاقبة تكذيبهم.
{فأمّا ثمُودُ فأُهْلِكُواْ بالطاغية} بالواقعة المجاوزة للحد في الشدة.
واختلف فيها فقيل الرجفة، وقيل الصيحة، وقيل الطاغية مصدر كالعافية أي بطغيانهم، ولكن هذا لا يطابق قوله {وأمّا عادٌ فأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ} أي بالدبور لقوله صلى الله عليه وسلم: «نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور» {صرْصرٍ} شديدة الصوت من الصرة الصيحة، أو باردة من الصر كأنها التي كرر فيها البرد وكثر فهي تحرق بشدة بردها {عاتِيةٍ} شديد العصف أو عتت على خزانها فلم يضبطوها بإذن الله غضبا على أعداء الله {سخّرها} سلطها {عليْهِمْ سبْع ليالٍ وثمانية أيّامٍ} وكان ابتداء العذاب يوم الأربعاء آخر الشهر إلى الأربعاء الأخرى {حُسُوما} أي متتابعة لا تنقطع جمع حاسم كشهود تمثيلا لتتابعها بتتابع فعل الحاسم في إعادة الكي على الداء بعد أخرى حتى ينحسم، وجاز أن يكون مصدرا أي تحسم حسوما بمعنى تستأصل استئصالا {فترى} أيها المخاطب {القوم فِيها} في مهابها أو في الليالي والأيام {صرعى} حال جمع صريع {كأنّهُمْ} حال أخرى {أعْجازُ} أصول {نخْلٍ} جمع نخلة {خاوِيةٍ} ساقطة أو بالية {فهلْ ترى لهُم مّن باقِيةٍ} من نفس باقية أو من بقاء كالطاغية بمعنى الطغيان.
{وجاء فِرْعوْنُ ومن قبْلهُ} ومن تقدمه من الأمم {ومِن قبْلِهِ} بصري وعلي أي ومن عنده من أتباعه {والمؤتفكات} قرى قوم لوط فهي ائتفكت أي انقلبت بهم {بِالْخاطِئةِ} بالخطأ أو بالفعلة أو بالأفعال ذات الخطأ العظيم {فعصوْاْ} أي قوم لوط {رسُول ربّهِمْ} لوطا {فأخذهُمْ أخْذة رّابِية} شديدة زائدة في الشدة كما زادت قبائحهم في القبح {إِنّا لمّا طغا الماء} ارتفع وقت الطوفان على أعلى جبل في الدنيا خمسة عشر ذراعا {حملناكم} أي آباءكم {فِى الجارية} في سفينة نوح عليه السلام {لِنجْعلها} أي الفعلة وهي إنجاء المؤمنين وإغراق الكافرين {لكُمْ تذْكِرة} عبرة وعظة {وتعِيها} وتحفظها {أُذُنٌ} بضم الذال: غير نافع {واعية} حافظة لما تسمع.
قال قتادة: وهي أذن عقلت عن الله وانتفعت بما سمعت.
{فإِذا نُفِخ في الصور نفْخةٌ واحدة} هي النفخة الأولى ويموت عندها الناس، والثانية يبعثون عندها {وحُمِلتِ الأرض والجبال} رفعتا عن موضعهما {فدُكّتا دكّة واحدة} دقتا وكسرتا أي ضرب بعضها ببعض حتى تندق وترجع كثيبا مهيلا وهباء منبثا {فيوْمئِذٍ} فحينئذ {وقعتِ الواقعة} نزلت النازلة وهي القيامة، وجواب (إذا) {وقعتِ} و{يوْمئِذٍ} بدل من (إذا) {وانشقت السماء} فتّحت أبوابا {فهِى يوْمئِذٍ واهِيةٌ} مسترخية ساقطة القوة بعد ما كانت محكمة {والملك} للجنس بمعنى الجمع وهو أعم من الملائكة {على أرْجائِها} جوانبها واحدها رجا مقصور لأنها إذا انشقت وهي مسكن الملائكة فيلجؤن إلى أطرافها {ويحْمِلُ عرْش ربّك فوْقهُمْ} فوق الملك الذين على أرجائها {يوْمئِذٍ ثمانية} منهم، واليوم تحمله أربعة وزيدت أربعة أخرى يوم القيامة.
وعن الضحاك: ثمانية صفوف.
وقيل: ثمانية أصناف.
{يوْمئِذٍ تُعْرضُون} للحساب، والسؤال شبه ذلك بعرض السلطان العسكر لتعرّف أحواله {لا تخفى مِنكُمْ خافِيةٌ} سريرة وحال كانت تخفى في الدنيا.
وبالياء: كوفي غير عاصم.
وفي الحديث: «يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات: فأما عرضتان فجدال ومعاذير، وأما الثالثة فعندها تطير الصحف فيأخذ الفائز كتابه بيمينه والهالك كتابه بشماله» {فأمّا} تفصيل للعرض {منْ أُوتِى كتابه بِيمِينِهِ فيقول} سرورا به لما يرى فيه من الخيرات خطابا لجماعته {هاؤُمُ} اسم للفعل أي خذوا {اقرؤا كتابيه} تقديره هاؤم كتابي اقرؤا كتابيه فحذف الأول لدلالة الثاني عليه، والعامل في {كتابيه} {اقرءوا} عند البصريين لأنهم يعملون الأقرب.
والهاء في {كتابيه} و{حِسابِيهْ} و{مالِيهْ} و{سلطانيه} للسكت، وحقها أن تثبت في الوقف وتسقط في الوصل، وقد استحب إيثار الوقف إيثارا لثباتها لثبوتها في المصحف {إِنّى ظننتُ} علمت.
وإنما أجرى الظن مجرى العلم، لأن الظن الغالب يقوم مقام العلم في العادات والأحكام، ولأن ما يدرك بالاجتهاد فلما يخلو عن الوسواس والخواطر وهي تفضي إلى الظنون، فجاز إطلاق لفظ الظن عليها لما لا يخلو عنه {أنّى ملاق حِسابِيهْ} معاين حسابي {فهُو في عِيشةٍ رّاضِيةٍ} ذات رضا يرضى بها صاحبها كلابن {فِى جنّةٍ عالِيةٍ} رفيعة المكان أو رفيعة الدرجات أو رفيعة المباني والقصور وهو خبر بعد خبر {قُطُوفُها دانِيةٌ} ثمارها قريبة من مريدها ينالها القائم والقاعد والمتكئ يقال لهم: {كُلُواْ واشربوا هنِيئا} أكلا هنيئا لا مكروه فيهما ولا أذى أو هنئتم هنيئا على المصدر {بِما أسْلفْتُمْ} بما قدمتم من الأعمال الصالحة {فِى الأيام الخالية} الماضية من أيام الدنيا.
وعن ابن عباس: هي في الصائمين أي كلوا واشربوا بدل ما أمسكتم عن الأكل والشرب لوجه الله.
{وأمّا منْ أُوتِى كتابه بِشِمالِهِ فيقول ياليتنى لمْ أُوت كتابيه} لما يرى فيها من الفضائح {ولمْ أدْرِ ما حِسابِيهْ} أي يا ليتني لم أعلم ما حسابي {ياليتها} يا ليت الموتة التي متها {كانتِ القاضية} أي القاطعة لأمري فلم أبعث بعدها ولم ألق ما ألقي {ما أغنى عنِّى مالِيهْ} أي لم ينفعني ما جمعته في الدنيا، ف (ما) نفي والمفعول محذوف أي شيئا {هلك عنّى سلطانيه} ملكي وتسلطي على الناس وبقيت فقيرا ذليلا.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: ضلت عني حجتي أي بطلت حجتي التي كنت أحتج بها في الدنيا فيقول الله تعالى لخزنة جهنم {خُذُوهُ فغُلُّوهُ} أي اجمعوا يديه إلى عنقه {ثُمّ الجحيم صلُّوهُ} أي أدخلوه يعني ثم لا تصلوه إلا الجحيم وهي النار العظمى، أو نصب {الجحيم} بفعل يفسره {صلُّوهُ} {ثُمّ في سِلْسِلةٍ ذرْعُها} طولها {سبْعُون ذِراعا} بذراع الملك.
عن ابن جريج: وقيل لا يعرف قدرها إلا الله {فاْسْلُكُوهُ} فأدخلوه.
والمعنى في تقدم السلسلة على السلك مثله في تقديم الجحيم على التصلية.
{إِنّهُ} تعليل كأنه قيل: ما له يعذب هذا العذاب الشديد؟ فأجيب بأنه {كان لا يُؤْمِنُ بالله العظيم * ولا يحُضُّ على طعامِ المسكين} على بذل طعام المسكين، وفيه إشارة إلى أنه كان لا يؤمن بالبعث لأن الناس لا يطلبون من المساكين الجزاء فيما يطعمونهم وإنما يطعمونهم لوجه الله ورجاء الثواب في الآخرة، فإذا لم يؤمن بالبعث لم يكن له ما يحمله على إطعامهم أي أنه مع كفره لا يحرّض غيره على إطعام المحتاجين، وفيه دليل قوي على عظم جرم حرمان المسكين لأنه عطفه على الكفر وجعله دليلا عليه وقرينة له، ولأنه ذكر الحض دون الفعل ليعلم أن تارك الحض إذا كان بهذه المنزلة فتارك الفعل أحق.
وعن أبي الدرداء أنه كان يحض امرأته على تكثير المرق لأجل المساكين ويقول: خلعنا نصف السلسلة بالإيمان فلنخلع نصفها بهذا.
وهذه الآيات ناطقة على أن المؤمنين يرحمون جميعا، والكافرين لا يرحمون لأنه قسّم الخلق نصفين فجعل صنفا منهم أهل اليمين ووصفهم بالإيمان فحسب بقوله {إِنّى ظننتُ أنّى ملاق حِسابِيهْ} وصنفا منهم أهل الشمال ووصفهم بالكفر بقوله {إِنّهُ كان لا يُؤْمِنُ بالله العظيم} وجاز أن الذي يعاقب من المؤمنين إنما يعاقب قبل أن يؤتى كتابه بيمينه {فليْس لهُ اليوم هاهنا حمِيمٌ} قريب يرفع عنه ويحترق له قلبه {ولا طعامٌ إِلاّ مِنْ غِسْلِينٍ} غسالة أهل النار، فعلين من الغسل، والنون زائدة وأريد به هنا ما يسيل من أبدانهم من الصديد والدم {لاّ يأْكُلُهُ إِلاّ الخاطئون} الكافرون أصحاب الخطايا وخطئ الرجل إذا تعمد الذنب.
{فلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُون} من الأجسام والأرض والسماء.
{وما لا تُبْصِرُون} من الملائكة والأرواح فالحاصل أنه أقسم بجميع الأشياء {إِنّهُ} أي إن القرآن {لقول رسُولٍ كرِيمٍ} أي محمد صلى الله عليه وسلم أو جبريل عليه السلام أي بقوله ويتكلم به على وجه الرسالة من عند الله {وما هُو بِقول شاعِرٍ} كما تدعون {قلِيلا مّا تُؤْمِنُون * ولا بِقول كاهِنٍ} كما تقولون {قلِيلا مّا تذكّرُون} وبالياء فيهما: مكي وشامي ويعقوب وسهل.
وبتخفيف الذال: كوفي غير أبي بكر.
والقلة في معنى العدم يقال: هذه أرض قلما تنبت أي لا تنبت أصلا، والمعنى لا تؤمنون ولا تذكرون البتة {تنزِيلٌ} هو تنزيل بيانا لأنه قول رسول نزل عليه {مّن رّبّ العالمين ولو تقول علينا بعض الأقاويل} ولو ادعى علينا شيئا لم نقله {لأخذْنا مِنْهُ باليمين} لقتلناه صبرا كما يفعل الملوك بمن يتكذب عليهم معالجة بالسخط والانتقام، فصور قتل الصبر بصورته ليكون أهول، وهو أن يؤخذ بيده وتضرب رقبته، وخص اليمين لأن القتّال إذا أراد أن يوقع الضرب في قفاه أخد بيساره، وإذا أراد أن يوقعه في جيده وأن يكفحه بالسيف وهو أشد على المصبور لنظره إلى السيف أخذ بيمينه، ومعنى لأخذنا منه باليمين لأخدنا بيمينه، وكذا {ثُمّ لقطعْنا مِنْهُ الوتين} لقطعنا وتينه وهو نياط القلب إذا قطع مات صاحبه {فما مِنكُم} الخطاب للناس أو للمسلمين {مّنْ أحدٍ} (من) زائدة {عنْهُ} عن قتل محمد وجمع {حاجزين} وإن كان وصف {أحدٍ} لأنه في معنى الجماعة ومنه قوله تعالى: {لا نُفرّقُ بيْن أحدٍ مّن رُّسُلِهِ} [البقرة: 285] {وإِنّهُ} وإن القرآن {لِتذْكِرةٌ} لعظة {لّلْمُتّقِين * وإِنّا لنعْلمُ أنّ مِنكُم مُّكذّبِين وإِنّهُ} وإن القرآن {لحسْرةٌ على الكافرين} به المكذبين له إذا رأوا ثواب المصدقين به {وإِنّهُ} وإن القرآن {لحقُّ اليقين} لعين اليقين ومحض اليقين {فسبِّحْ باسم ربّك العظيم} فسبح الله بذكر اسمه العظيم وهو قوله سبحان الله. اهـ.

.قال ابن جزي:

سورة الحاقة:
{الحاقة} هي القيامة ووزنها فاعلة وسميت الحاقة لأنها تحق، أي يصح وجودها، ولا ريب في وقوعها ولأنها حقت لكل أحد جزاء عمله، أو لأنها تبدئ حقائق الأمور {ما الحآقة} ما استفهامية يراد بها التعظيم، وهي مبتدأ وخبرها ما بعده والجملة خبر الحاقة، وكان الأصل الحاقة ما هي، ثم وضع الظاهر موضع المضمر زيادة في التعظيم والتهويل، وكذلك، {ومآ أدْراك ما الحاقة} لفظه استفهام والمراد به التعظيم والتهويل {بالقارعة} هي القيامة سميت بذلك؛ لأنها تقرع القلوب بأهوالها {بالطاغية} يعني الصيحة التي أخذت ثمود، وسميت بذلك لأنها جاوزت الحدّ في الشدة، وقيل: الطاغية مصدر فكأنه قال: أهلكوا بطغيانهم، فهو كقوله: كذبت ثمود بطغواها، وقيل: هي صفة لمحذوف تقديره أهلكوا بسبب الفعلة الطاغية، أو الفئة الطاغية والباء، على هذين القولين سببية، وعلى القول الأول كقولك: قتلت زيدا بالسيف {بِرِيحٍ صرْصرٍ عاتِيةٍ} ذكر في [فصلت: 16]، وعاتية أي شديدة. وسميت بذلك لأنها عتت على عاد، وقيل: عتت على خزانها، فخرجت بغير إذنهم {سخّرها عليْهِمْ سبْع ليالٍ} رُوي أنا بدت صبيحة يوم الأربعاء لثمان بقيت من شوال، وتمادت بهم إلى آخر يوم الأربعاء تكلمة الشهر {حُسُوما} قال ابن عباس: معناه كاملة متتابعة لم يتخللها غير ذلك، وقيل: معناه شؤما، وقيل: هو جمع حاسم من الحسم. وهو القطع أي قطعتهم بالإهلاك، فحسوما على القول الأول والثاني مصدر في موضع الحال، وعلى الثالث حال أو مفعول من أجله {فترى القوم فِيها صرعى} جمع صريع وهو المطروح، والضمير المجرور يعود على منازلهم، لأن المعنى يقتضيها وإن لم يتقدم ذكرها، أو على الأيام والليالي، أو على الريح {كأنّهُمْ أعْجازُ نخْلٍ خاوِيةٍ} تقدم في القمر معنى تشبيههم بأعجاز النخل، والخاوية هي التي خلت من طول بلائها وفسادها {مِّن باقِيةٍ} أي من بقية، وقيل: من فئة باقية وقيل: إنه مصدر بمعنى البقاء.
{ومن قبْلهُ} يريد من تقدم قبله من الأمم الكافرة، وأقربهم إليه قوم شعيب، والظاهر أنهم المراد لأن عادا وثمود قد ذكرا، وقوم لوط هم المؤتفكات، وقوم نوح قد أشير إليهم في قوله: {لمّا طغا الماء حملْناكُمْ فِي الجارية}، وقرأ بكسر القاف وفتح الباء ومعناه: جنده وأبتاعه {بِالْخاطِئةِ} إما أن يكون مصدرا بمعنى الخطيئة أو صفة لمحذوف تقديره: بالفعلة الخاطئة {فعصوْاْ رسُول ربِّهِمْ} إن عاد الضمير على فرعون وقومه، فالرسول موسى عليه السلام، وإن عاد على المؤتفكات: فالرسول لوط عليه السلام، وإن عاد على الجميع: فالرسول اسم جنس أو بمعنى الرسالة {رّابِية} أي عظيمة وهي من قولك: ربا الشيء إذا كثر {طغا الماء} عبارة عن كثرته، فيحتمل أن يريد أنه طغى على أهل الأرض، أو على خزانه يعني وقت طوفان نوح عليه السلام {حملْناكُمْ فِي الجارية} هي السفينة، فإن أراد سفينة نوح فمعنى {حملْناكُمْ} حملنا آباءكم لأن كل من على الأرض من ذرية نوح وأولاده الثلاثة الذين كانوا معه في السفينة، وإن أراد جنس السفن فالخطاب على حقيقته.
{لِنجْعلها لكُمْ تذْكِرة} الضمير للفعلة وهي الحمل في السفينة وقيل: للسفينة، فإن أراد جنس السفن: فالمعنى أنها تذكرة بقدرة الله ونعمته لمن ركب أو سمع بها، وإن إراد سفينة نوح فقد قيل: إن الله أبقاها حتى رأى بعض عيدانها أو هذه الأمة {وتعِيهآ أُذُنٌ واعِيةٌ} الضمير يعود على ما عاد عليه ضمير: لنجعلها، وهذا يقوي أن يكون للفعلة، والأذن الواعية: هي التي تفهم ما تسمع وتحفظه، يقال: وعيت العلم إذا حصلته، ولذلك عبّر بعضهم عنها بأنها التي عقلت عن الله، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي بن أبي طالب: «إني دعوت الله أن يجعلها أذنك يا عليّ»، قال عليّ: فما نسيت بعد ذلك شيئا سمعته، قال الزمخشري: إنما قال: {أذن واعية}، بالتوحيد والتنكير، للدلالة على قلة الوعاة ولتوبيخ الناس بقلة من يعي منهم، وللدلالة على أن الأذن الواحدة إذا عقلت عن الله تعالى فهي المعتبرة عند الله دون غيرها {نفْخةٌ واحِدةٌ} يعني نفخة الصور وهي الأولى {فدُكّتا} الضمير للأرض والجبال، ومعنى دكتا بعضها ببعض حتى تندق، وقال الزمخشري: الدك أبلغ من الدق، وقيل؛ معناه بسطت حتى تستوي الأرض والجبال.
{وقعتِ الواقعة} أي قامت القيامة، وقيل: صخرة بيت المقدس وهذا ضعيف {واهِيةٌ} أي مسترخية ساقطة القوة، ومنه قولهم: دار واهية أي ضعيفة الجدران {والملك على أرْجآئِهآ} الملك هنا اسم جنس والأرجاء الجوانب واحدها رجى مقصور، والضمير يعود على السماء، والمعنى إن الملائكة يكونون يوم القيامة على جوانب السماء، لأنها إذا وهيت وقفوا على أطرافها، وقيل: يعود على الأرض لأن المعنى يقتضيه، وإن لم يتقدم ذكرها، ورُوي في ذلك أن الله يأمر الملائكة فتقف صفوفا على جوانب الأرض. والأول أظهر وأشهر {ويحْمِلُ عرْش ربِّك فوْقهُمْ يوْمئِذٍ ثمانِيةٌ} قال ابن عباس: هي ثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم أحد عدّتهم. وقيل: ثمانية أملاك رؤوسهم تحت العرش وأرجلهم تحت الأرض السابعة، ويؤيد هذا ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: هم اليوم أربعة، فإذا كان يوم القيامة قوّاهم الله بأربعة سواهم.
{يوْمئِذٍ تُعْرضُون} خطاب لجميع العالم، والعرض: البعث أو الحساب {خافِيةٌ} أي حال خافية من الأمال والسرائر، ويحتمل المعنى لا يخفى من أجسادهم لأنهم يحشرون حفاة عراة {فأمّا منْ أُوتِي كِتابهُ بِيمِينِهِ} الكتاب هنا صحائف الأعمال {فيقول هآؤُمُ اقرؤا كِتابيهْ} {هاؤم} اسم فعل، قال ابن عطية: معناه تعالوا وقال الزمخشري: هو صوت يفهم منه معنى خذ، و{كتابيه} مفعول يطلبه {هاؤم} و{اقرؤوا} من ضمير المعنى، تقديره هاؤم كتاب اقرؤا كتابي ثم حذف لدلالة الآخر عليه وعمل فيه العامل، الثاني: وهو {اقرأوا} عند البصريين، والعامل الأول هو {هاؤم} عند الكوفيين، والدليل على صحة قول البصريين أنه لو عمل الأول لقال اقرؤوه، والهاء على {كتابيه} للوقف، وكذلك في {حسابيه} و{ماليه} و{سلطانيه}، وكان الأصل أن تسقط في الوصل لكنها ثبتت فيه مراعاة لخط المصحف وقد أسقطها في الوصف حمزة، ومعنى الآية: أن العبد الذي يعطى كتابه بيمينه يقول للناس: اقرأوا كتابيه على وجه الاستبشار والسرور بكتابه {إِنِّي ظننتُ} الظن هنا بمعنى اليقين {رّاضِيةٍ} أي ذات رضا كقولهم: تامر لصاحب التمر. قال ابن عطية: ليست بياء اسم فاعل، وقال الزمخشري: يجوز أن يكون اسم فاعل نسب الفعل إليها مجازا وهو لصاحبها حقيقة {قُطُوفُها} جمع قطف وهو ما يجتنى من الثمار ويقطف كالعنقود {دانِيةٌ} أي قريبة، وروي أن العبد يأخذها بفمه من شجرها، على أي حال كان من قيام أو جلوس أو اضطجاع {أسْلفْتُمْ} أي قدمتم من الأعمال الصالحة {فِي الأيام الخالية} أي الماضية يعني أيام الدنيا.
{وأمّا منْ أُوتِي كِتابهُ بِشِمالِهِ} هم الكفار بدليل قوله: {إِنّهُ كان لا يُؤْمِنُ بالله العظيم} [الحاقة: 33] فجعل علة إعطائهم كتبهم بشمالهم عدم إيمانهم، وأما المؤمنون فيعطون كتبهم بأيمانهم، لكن اختلف فيمن يدخل النار منهم، هل يعطى كتابه قبل دخول النار أو بعد خروجه منها؟ وهذا أرجح لقوله: {هآؤُمُ اقرؤا كِتابيهْ} [الحاقة: 19]، لأن هذا كلام سرور فيبعد أن يقوله من يحمل إلى النار {فيقول ياليتني لمْ أُوت كِتابِيهْ} أي يتمنى أنه لم يعط كتابه، وقال ابن عطية: يتمنى أن يكون معدوما لا يجري عليه شيء والأول أظهر {ياليتها كانتِ القاضية} أي ليت الموتة الأولى كانت القاضية بحيث لا يكون بعدها بعث ولا إحياء {مآ أغنى عنِّي مالِيهْ} يحتمل أن يكون نفيا، أو استفهاما يراد به النفي {هّلك عنِّي سُلْطانِيهْ} أي زال عني ملكي وقدرتي وقيل: ذهبت عني حجتي.
{خُذُوهُ فغُلُّوهُ} خطاب للزبانية يقوله لهم الله تعالى أو الملائكة بأمر الله {فغُلُّوهُ} أي اجعلوا غلا في عنقه؛ وروي أنها نزلت في أبي جهل {ذرْعُها سبْعُون ذِراعا} معنى ذرعها أي طولها، واختلف في هذا الذراع فقيل: إنه الذراع المعروف، وقيل: بذراع الملك، وقيل: في الذراع سبعون باعا، كل باع ما بين مكة والكوفة، ولله در الحسن البصري في قوله: الله أعلم بأي ذراع هي، وجعلها سبعين ذراعا لإرادة وصفها بالطول، فإن السبعين من الأعداد التي تقصد بها العرب التكثير، ويحتمل أن تكون هذه السلسلة لكل واحد من أهل النار، أو تكون بين جميعهم وقد حكى الثعلبي ذلك {فاسْلُكُوهُ} أي أدخلوه، روي أنها تلتوي عليه حتى تعمه وتضغطه، فالكلام على هذا على وجهه وهو المسلوك فيها، وإنما قدم قوله: في سلسلة، على اسلكوه، لإرادة الحصر، أي لا تسلكوه إلا في هذه السلسلة وكذلك قدّم الحميم، على صلّوه، لإرادة الحصر أيضا {طعامِ المسكين} يحتمل أنه أراد إطعام مسكين، فوضع الاسم موضع المضمر، أو يقدر: لا يحض على بذل طعام المسكين، وأضاف الطعام إلى المسكين؛ لأن له إليه نسبة، ووصفه بأنه لا يحض على طعام المسكين يدل على أنه لا يطعمه من باب أولى، وهذه الآية تدل على عظم الصدقة وفضلها، لأنه قرن من طعام المسكين بالكفر بالله {فليْس لهُ اليوم هاهنا حمِيمٌ} فيه قولان: أحدهما ليس له صديق، والآخر: ليس له شراب {ولا طعامٌ إِلاّ مِنْ غِسْلِينٍ} فإن الحميم الماء الحار، والغسلين صديد أهل النار عند ابن عباس. وقيل: شجر يأكله أهل النار، وقال اللغويون: هو ما يجري من الجراح إذا غسلت وهو فِعْلين من الغسل {الخاطئون} جمع خاطئ وهو الذي يفعل ضد الصواب متعمّدا، والمخطئ الذي يفعله بغير تعمد.
{فلا أُقْسِمُ} لا زائدة غير نافية {بِما تُبْصِرُون * وما لا تُبْصِرُون} يعني جميع الأشياء لأنها تنقسم إلى ما يبصر وما لا يبصر، كالدنيا والآخرة والإنس والجن والأجسام والأرواح وغير ذلك {إِنّهُ لقول رسُولٍ كرِيمٍ} هذا جواب القسم، والضمير للقرآن، والرسول الكريم جبريل، وقيل: لمحمد عليه الصلاة والسلام {قلِيلا مّا تُؤْمِنُون} قال ابن عطية: يحتمل أن تكون ما نافية، فنفى إيمانهم بالجملة أو تكون مصدرية فوصف إيمانهم بالقلة، وقال الزمخشري: القلة هنا بمعنى العدم، أي لا تؤمنون ولا تذكرون البتة.
{ولوْ تقول عليْنا بعْض الأقاويل} التقول هو أن ينسب إلى أحد ما لم يقل، ومعنى الآية: لو تقول علينا محمد لعاقبناه، ففي ذلك برهان على أن القرآن من عند الله {لأخذْنا مِنْهُ باليمين} قال ابن عباس: هنا القوة ومعناه: لو تقول علينا لأخذناه بقوتنا وقيل: هي عبارة عن الهوان كما يقال لمن يسجن: أخذ بيده وبيمينه، قال الزمخشري: معناه لو تقول علينا لقتلناه، ثم صور صورة القتل ليكون أهول، وعبر عن ذلك بقوله: لأخذنا منه باليمين، لأن السيّاف إذا أراد أن يضرب المقتول في جسده أخذ بيده اليمنى ليكون ذلك أشد عليه لنظره إلى السيف {الوتين} نياط القلب، وهو عرق إذا قطع مات صاحبه، فالمعنى لقتلناه {فما مِنكُمْ مِّنْ أحدٍ عنْهُ حاجِزِين} الحاجز المانع، والمعنى: لو عاقبنا لم يمنعه أحد منكم ولم يدفع عنه وإنما جمع {حاجزين}، لأن {أحد} في معنى الجماعة {وإِنّهُ لتذْكِرةٌ} الضمير للقرآن، وقيل: لمحمد صلى الله عليه وسلم، والأولى أظهر {وإِنّهُ لحسْرةٌ على الكافرين} أي حسرة عليهم في الآخرة، لأنهم يتأسفون إذا رأوا ثوب المؤمنين {وإِنّهُ لحقُّ اليقين} قال الكوفيون هذا من إضافة الشيء إلى نفسه، كقولك: مسجد الجامع، وقال الزمخشري: المعنى: عين اليقين ومحض اليقين، وقال ابن عطية: ذهب الحذاق إلى أن الحق مضاف إلى الأبلغ من وجوهه. اهـ.